ثالثا: التخطيط الاستراتيجي في المنظمات الصيدلانية
هل تساءلت يومًا ما الذي يفصل بين صيدلية المجتمع التي تكافح للبقاء في السوق وتلك التي تنمو باستمرار، وتصبح مركزًا محوريًا للرعاية الصحية في منطقتها؟
الإجابة تكمن غالبًا في كلمة واحدة: التخطيط الاستراتيجي. إنها ليست مجرد "خطة عمل" سنوية، بل هي بوصلة ترسم مسار المنظمة نحو المستقبل، وتُحدد الأهداف طويلة الأجل، وتستغل الفرص، وتتصدى للتحديات
|  | 
| تطوير الصيدلة السريرية المتخصصة | 
هذا المقال هو دليل شامل لاستكشاف ماهية التخطيط الاستراتيجي في المنظمات الصيدلانية، وأمثلته التطبيقية، والمعوقات التي يجب تجاوزها لتحقيق أقصى استفادة منه.
أمثلة التخطيط الاستراتيجي في المنظمات الصيدلانية
تختلف طبيعة ونطاق التخطيط الاستراتيجي باختلاف المنظمة الصيدلانية.
فالصيدليات التي تهدف إلى الربح (مثل الصيدليات المستقلة والسلاسل) تميل إلى إبقاء خططها الاستراتيجية سرية لتجنب إطلاع المنافسين على ميزتها التنافسية.
على النقيض من ذلك، نجد أن التخطيط الاستراتيجي في الصيدليات المؤسسية (مثل صيدليات المستشفيات) يتم توثيقه ونشره على نطاق أوسع، ويعود ذلك جزئيًا إلى طبيعة عملها غير الربحية أو تركيزها على الجودة والخدمة السريرية.
أولا: التخطيط في صيدليات المستشفيات والمؤسسات
قصة نجاح: تحسين النتائج السريرية
تصور سيناريو لـ قسم صيدلية في مستشفى جامعي يواجه تحديًا يتمثل في ارتفاع معدلات الأخطاء الدوائية وتدهور رضا الأطباء عن الدعم السريري. قررت إدارة الصيدلية إجراء تخطيط استراتيجي.
الرؤية الجديدة: "أن نكون مركزًا للتميز في الرعاية الدوائية السريرية، ونساهم بشكل مباشر في تحسين نتائج المرضى وسلامتهم."
الاستراتيجية المعتمدة: تطوير الصيدلة السريرية المتخصصة.
الإجراءات التنفيذية:
- توظيف صيادلة إكلينيكيين متخصصين في العناية المركزة والطوارئ والأورام.
- تأسيس لجنة لتقييم الاستخدام الدوائي لوضع بروتوكولات علاجية موحدة.
- الاستثمار في نظام إلكتروني متقدم لإدخال أوامر الطبيب ونظام دعم القرار السريري.
الأقسام التي اعتمدت تخطيطًا استراتيجيًا متطورًا سجلت تقييمًا أعلى من قبل مديري المستشفيات من حيث الرضا الإداري، والصورة المهنية، وجودة البرامج السريرية، وعددها. وفي سياق مشابه، أظهر التخطيط الاستراتيجي في صيدليات إدارة شؤون المحاربين القدامى بالولايات المتحدة (Portner et al., 1996) زيادة في مشاركة الصيدلي في رعاية المرضى وكفاءة أنظمة توزيع الأدوية.
ثانيا: التخطيط في الصيدليات المجتمعية (التجارية)
على الرغم من أن الصيدليات التجارية (السلاسل والصيدليات المستقلة) لا تنشر خططها التنافسية، إلا أن هناك أدلة قوية على أهمية التخطيط الاستراتيجي لها.
دراسة الحالة: قوة التخطيط في صيدلية المجتمع
أشارت دراسة هامة أجريت على 1500 صيدلية مجتمعية (Harrison and Ortmeier, 1996) إلى أن 30.8% فقط من المستجيبين أفادوا بقيامهم بالتخطيط الاستراتيجي. ومع ذلك، كانت النتائج لافتة للنظر:
الصيدليات التي نفذت تخطيطًا استراتيجيًا أظهرت أداءً ذاتيًا أعلى بكثير في:
- الخدمات السريرية: مثل الاستشارات وإدارة الأمراض المزمنة.
- خدمات صرف الأدوية: من حيث الكفاءة والسرعة.
- الأداء المالي: مما يشير إلى أن التخطيط يساهم مباشرة في النجاح التنظيمي وزيادة الأرباح.
- القوة: موقع مركزي ممتاز، وصيدلي متخصص في التغذية.
- الضعف: نقص في مخزون مستحضرات التجميل، ونظام إدارة مخزون قديم.
- الفرصة: لا يوجد صيدلية في المنطقة تقدم خدمة رعاية مرضى السكري الشاملة.
- التهديد: افتتاح سلسلة صيدليات جديدة قريباً.
الاستراتيجية المعتمدة: التحول إلى مركز رعاية سكري متكامل.
الأهداف:
- تقديم خدمة قياس السكر والتثقيف لـ 50 مريضًا شهريًا خلال 6 أشهر.
- زيادة مبيعات المكملات والأجهزة الخاصة بالسكري بنسبة 20% خلال عام.
هذا التحول من مجرد "متجر أدوية" إلى "مركز صحي متخصص" هو جوهر التخطيط الاستراتيجي الناجح في الصيدليات المجتمعية.
خطوات التخطيط الاستراتيجي: خارطة الطريق للنجاح
إن التخطيط الاستراتيجي ليس عملية عشوائية، بل هو سلسلة من الخطوات المنهجية التي تضمن تحليلاً شاملاً وصياغة دقيقة وتنفيذًا فعالاً.
نلاحظ أن أكثر الخطوات شيوعًا هي تحليل العوامل الداخلية والخارجية (SWOT)، بينما كانت مراجعة الهيكل والأنظمة هي الأقل شيوعًا، وهذا قد يشير إلى أن بعض الصيدليات تكتفي بوضع الخطة دون إجراء التغييرات الهيكلية اللازمة لتنفيذها.
1) تطوير بيان الرسالة والرؤية
الرسالة (Mission)
هي "ما نحن عليه الآن؟" و"ماذا نفعل؟". تحدد الغرض الأساسي للوجود.
مثال: "رسالتنا هي توفير رعاية صيدلية شاملة ومتمحورة حول المريض، مع ضمان الوصول الآمن والفعال للأدوية والمعلومات الصحية في مجتمعنا."
الرؤية (Vision)
هي "ماذا نريد أن نصبح؟" و"أين نرى أنفسنا بعد 5-10 سنوات؟" يجب أن تكون ملهمة وطموحة.
مثال لـ "للصيدلى محمد" (حالة افتراضية): إذا كان محمد يعمل في قسم صيدلية يفتقر إلى الخدمات السريرية، يمكن أن تكون الرؤية: "أن يصبح قسم صيدلية المستشفى الرائد في الشرق الأوسط في تكامل الرعاية السريرية، وأن يُعرف بتأثيره الإيجابي على نتائج المرضى وتقليل مدة الإقامة في المستشفى."
2) تحديد وتحليل البيئة (SWOT)
هذه هي الخطوة الأكثر استخدامًا (94.2% و 90.2%). وهي ضرورية لفهم الوضع الراهن.
- نقاط القوة والضعف (داخلية): (كفاءة الموظفين، التكنولوجيا، قوة المخزون، الولاء الإداري).
- الفرص والتهديدات (خارجية): (التغيرات التشريعية، المنافسون الجدد، التطور التكنولوجي، تغييرات أنظمة الدفع).
3) صياغة الاستراتيجيات وتطبيقها
بناءً على تحليل  SWOT، تُصاغ أهداف ذكية (SMART) وتُختار الاستراتيجيات.
- إذا كانت القوة هي "الاستشارات السريرية عالية الجودة" والفرصة هي "نظام التأمين الجديد"، تكون الاستراتيجية هي: "التفاوض مع شركات التأمين لتقديم خدمات إدارية متميزة للأمراض المزمنة مدفوعة الأجر."
- التنفيذ: يتطلب تخصيص الموارد والوقت وتدريب الموظفين. كما أشار 86.1% من الصيدليات المجتمعية إلى أنهم يقومون بهذه الخطوة.
4) التقييم والمراجعة المستمرة
الخطة الاستراتيجية ليست وثيقة تُوضع على الرف. إنها عملية مستمرة وحيوية.
- المتابعة: هل تحقق الصيدلية أهدافها؟ هل ارتفعت نسبة رضا العملاء؟
- التقييم: إذا لم يتم تحقيق هدف "زيادة عدد الاستشارات"، يجب تحليل السبب: هل هو نقص في الموارد؟ أم أن الصيدلي لا يمتلك المهارات الكافية للتسويق للخدمة؟
معوقات وقيود التخطيط الاستراتيجي: حواجز الطريق نحو النجاح
|  | 
| معوقات وقيود التخطيط الاستراتيجي | 
على الرغم من الفوائد المثبتة للتخطيط الاستراتيجي، فإن العديد من المنظمات الصيدلانية تفشل في مساعيها التخطيطية. وهذا الفشل غالبًا ما يعود إلى عدم الاعتراف بـ العوائق المشتركة والقيود الكامنة في عملية التخطيط نفسها والتعامل معها.
أولاً: المعوقات التنظيمية والإدارية (Barriers)
تتطلب عملية التخطيط الاستراتيجي التزامًا جادًا بالوقت والموارد. وفيما يلي أبرز الحواجز التي يجب على المنظمات الصيدلانية أن تتغلب عليها:
1. عدم دعم الإدارة العليا و/أو مجلس الإدارة
- قصة واقعية: تخيل مدير صيدلية مستشفى "س" يحشد فريق العمل لوضع خطة استراتيجية لزيادة الخدمات السريرية. يتم وضع الخطة، لكن المدير نفسه يرفض تخصيص ميزانية لتدريب الصيادلة أو شراء برامج جديدة، لأن "الإدارة العليا لن توافق". في هذه الحالة، فإن غياب "الشراء" من المدير الأعلى يجعل الخطة حبرًا على ورق.
2. الفشل في تخصيص وقت كافٍ
يتطلب التخطيط الجيد وقتًا مركزًا وغير متقطع. لهذا السبب تلجأ الصيدليات الكبيرة أحيانًا إلى عقد "خلوات التخطيط" (Retreats) خارج بيئة العمل المعتادة لتشجيع التفكير الإبداعي والعميق.
- سيناريو الصيدلية المزدحمة: الصيدلي/المدير في الصيدلية المجتمعية غارق في "إدارة الأزمة" أو "النمط اليومي" (Management by Crisis)، حيث يركز على المشاكل الفورية (نقص دواء معين، شكوى عميل) بدلاً من توجيه جهده نحو الأهداف الاستراتيجية طويلة الأجل، مما يؤدي إلى تأجيل التخطيط مرارًا وتكرارًا.
3. القضايا الشخصية ومقاومة التغيير
4. فشل الاتصال والتنفيذ
التنفيذ هو العائق الأكثر شيوعًا (تحليل ولكن لا عمل). يمكن أن تفشل الخطة لأحد الأسباب التالية:
- نقص الموارد أو الوقت: وضع خطة لافتتاح "وحدة رعاية منزلية" دون تخصيص مركبة أو صيدلي إضافي لتنفيذ الزيارات.
- عدم مراقبة التقدم: وضع الأهداف دون تعيين مؤشرات أداء رئيسية (KPIs) أو جدول زمني للمتابعة.
- التواصل غير الواضح: استخدام "لغة الخطة" أو المصطلحات الفنية المعقدة (Jargon) التي لا يفهمها الموظف على خط المواجهة (الفني أو المساعد). يجب أن تكون رسالة الخطة واضحة ومبسطة للجميع.
| .png) | 
| معوقات التخطيط الفعال (ملخص وتحليل) | 
ثانياً: القيود المتأصلة في التخطيط (Limitations)
يجب على المديرين أن يدركوا أن التخطيط الاستراتيجي ليس "عصا سحرية" لعلاج جميع مشاكل المنظمة. هناك قيود جوهرية يجب التعامل معها بواقعية:
1) التخطيط هو تخمين (مُدَرَّس)
حتى أفضل خطة مبنية على أفضل البيانات تظل عرضة لـ المخاطر. القرارات تستند إلى أدلة الماضي وافتراضات المستقبل، ولكن الشك وعدم اليقين جزء أصيل من أي عملية تجارية أو صحية.
مثال: صيدلية تخطط للتوسع بناءً على أن أسعار الأدوية ستظل مستقرة، لكن الحكومة تقرر فجأة تحرير أسعار الصرف، مما يضاعف تكلفة الاستيراد ويجعل الخطة المالية للتوسع غير مجدية.
2) جودة الخطة من جودة البيانات
الخطة تكون جيدة بقدر جودة البيانات والمعلومات المدخلة فيها. "بيانات سيئة = استراتيجية سيئة."
المنظمات التي تعتمد على مقاربات "قالب جاهز" أو "وصفة جاهزة" للتخطيط (Cookie-cutter approaches) دون بذل الجهد اللازم للتحليل العميق، غالبًا ما تفشل. يجب أن يكون التخطيط عملية شخصية وإبداعية تعكس الواقع الفريد لكل صيدلية.
3) التخطيط ليس بديلاً عن العمل
يجب أن تتوازن عملية التفكير مع عملية الفعل. فأن تكون منظمة تهتم "بالتخطيط فقط" دون اتخاذ الإجراءات اللازمة يعد وصفة للفشل.
4) الخطة ليست جامدة أو ثابتة
الخطة يجب أن تكون مرنة وقابلة للتعديل.
الالتزام الأعمى بالخطة القديمة، حتى بعد تغير البيئة المحيطة (ظهور تقنية جديدة، منافسة شرسة)، هو أمر غير حكيم ويعتبر خطأ استراتيجيًا. يجب النظر إلى التخطيط كـ عملية مستمرة.
تطبيق عملي: ما بعد التخرج وبداية التخطيط
بالعودة إلى سيناريو "الصيدلي محمد"، الصيدلي الخريج الجديد الذي يشارك في مبادرة التخطيط الاستراتيجي لقسم الصيدلة في مستشفاه. إن معرفة محمد بهذه المفاهيم تضعه في موقع قوة ليصبح مساهماً فعالاً.
أسئلة استراتيجية للصيدلي محمد:
1) ما هي الرؤية المناسبة لقسم الصيدلة؟
مقترح: "أن نكون القوة الدافعة للرعاية الدوائية الشخصية والمُحسَّنة بالتقنية، والتي تساهم في تحقيق نتائج علاجية مثالية لمرضى المستشفى."
2) ما الأهداف التي يجب أن يحددها القسم؟ (بافتراض أن القسم لديه مشكلات في الكفاءة السريرية والمالية)
- الهدف 1 (السريري): دمج صيادلة متخصصين في جولتي العناية المركزة والطوارئ بنسبة 100% خلال العام القادم لتقليل الأخطاء الدوائية.
- الهدف 2 (المالي): تحسين إدارة المخزون لخفض قيمة الأدوية منتهية الصلاحية بنسبة 15% خلال 9 أشهر.
- الهدف 3 (الخدمة): تطوير برنامج تثقيفي شامل للمرضى الجدد يُقدم عند الخروج، وقياس رضاهم عنه بنسبة لا تقل عن 90%.
الخلاصة: الصيدلي كقائد استراتيجي
إن فهم مفاهيم التخطيط الاستراتيجي ليس مقتصرًا على المديرين، بل هو ضروري لكل صيدلي طموح يسعى للقيادة والتأثير في منظمته. إن فهم عملية بناء الخطة، وتحديد المعوقات، والعمل على تجاوزها، سيسمح للصيدلي بالمساهمة بفاعلية في تحديد اتجاه المؤسسة التي يعمل بها، وبالتالي ضمان استدامة وتطور مهنة الصيدلة في المستقبل.
|  | 
| الصيدلي كقائد استراتيجي | 
 
